الأربعاء، 29 أغسطس 2018

الأدب المهجري تاريخه خصوصياته ومظاهره
نقوس المهدي   


لا يمكن تحقيب الأدب ودراسته بحسب التقسيم المرحلي فحسب، بل ينتظم أيضا بحسب الاشخاص والحركات والمدارس الأدبية، لأن التاريخ  عبر مساره الطويل عرف العديد من موجات النزوح الفردية  والجماعية.. وبالتالي فقد عرف ميلاد العديد من المدارس الأدبية وخصوصياتها الجمالية.. من هذا المنطلق يمكننا الحديث عن أدب مهجري قائم بذاته.. لكن أن تكون له مدرسة فنية تميزه وتؤرخ له فذلك لم يبتدئ إلا مع موجات الهجرات الجماعية من الشام إلى الأمريكيتين.. هربا من الخدمة العسكرية والاضطهاد والقهر والاستبداد والظلم الاجتماعي والاضطهاد الديني والعرقي وضيق الحال.. بين الفترات الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى حوالي النصف الأول من القرن العشرين، بحثا عن سماوات أخرى اقل ضيقا وأكثر رحابة وحرية وانطلاقا، وكان لا بد أن يحمل هؤلاء المهاجرين - الذين تجاوز عددهم بحسب التقديرات حوالي مليوني مهاجر -   إلى الضفاف الأخرى بدل الأمتعة أمانيهم وثقافاتهم وأحلامهم الواسعة التي لا ضفاف لها، مبشرين بالتعايش والتسامح ونشر حوار الحضارات وروح المثاقفة، الشيء الذي حدا بالرئيس الأميركي روزفلت إلى مخاطبة جبران خليل جبران بتعبير جميل وجد معبر: " أنت أول عاصفة انطلقت من الشرق واكتسحت الغرب، ولكنها لم تحمل إلى شواطئنا إلا الزهور..

كان أدباء المهجر على اختلاف مشاربهم وإثنياتهم وتطلعاتهم ومذاهبهم الفكرية والعقدية والدينية يوحدهم عشق الحرف وصدق الانتماء للأرض والوطن والآمال الجمعية العريضة إلى التحرر وحرية الإبداع والمعتقد، وكان لزاما أن يحملوا معه لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم ويكتبون أدبا عربيا متأثرا طبعا بما هو رائج في تلك المجتمعات التي غطت كامل تراب الأمريكيتين، وكان صعبا أيضا أن لايتم ذلك الانصهار السريع للجاليات الممزوجة بلحام العروبة والدم والوطن والدين في تلك المجتمعات، مما سيصنع منها شبه شعب متحد في مجتمع جديد " غريب الوجه واليد واللسان.. " كما يقول المتنبي واصفا اغترابه في بلاد فارس.. حتى أننا نستطيع الجزم بأن كل التحولات العظيمة التي طرأت على تاريخ الأدب والفن العربيين تمت علي أيدي هؤلاء الأدباء المهاجرين بحكم تأثرهم  بالبيئة الامريكية وبعطاءات المدارس الرومانسية والرمزية الغربية من جهة، فظهرت تبعا لهذه  الطموحات والتحولات العديد من المدارس والمجلات الأدبية، وعرفت الساحة الأدبية أنماطا لم يعهدها الأدب العربي من قبل تجلت في بعض المحاولات النّثرية وإرهاصات الكتابة الروائية والقصصية لذا هذا الجيل الأول، ونشأت نظريات ورؤى تجديدية انعكست ايجابيا على مستوى الشكل والمضمون والروح، وبالحركات التجديدية لكل من مدرسة الديوان وشعراء مدرسة ابولو وغيرهم من الشعراء المجددين.. في وقت كان الأدب  العربي  يعاني  من  يبس الركود والتقهقر، والنهضة العربية في بداياتها المبكرة تتلمس بالكاد طريقها، وتعيد باستحياء إنتاج وبعث نصوص تراثية هجينة..

إن مفهوم الأدب المهجري وتداعياته وشجونه ومواضيعه وخصوصياته يكاد يكون قاسما مشتركا في كتابات جميع الأدباء والمثقفين المغتربين، وحتى بالنسبة للسلالات اللاحقة في ما يطلق عليه أدب الدياسبورا.. والتي تراوح بين انتماءين ووطنين وجنسيتين وهويتين وثقافتين..

هذه البينونة هي التي تمنح الأدب المهجري هويته وخصوصياته وقيمته الجمالية بين الآداب والفنون الأخرى، والثقافات المتنوعة والحضارات. وتسعى باستماتة قصوى إلى مقاومة الاستلاب والتغريب وتهديد الهوية..

فهذا الشاعر  العباسي أبو الحسن علي ابن زريق البغدادي   يصف  في قصيدة  الفراقية الشهيرة   لوعته وحسرته   على فراق أهله  وزوجته التي  هاجر من اجلها طلبا لسعة الرزق   في بلاد الأندلس الذي  اعتبر  الملاذ الأول الذي  استقبل العديد من الشعراء في تلك   الأحقاب:  

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً = بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي = صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً = وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ = وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

أما قبل..  وتحديدا بالقرن الثامن نصادف أبياتا  لعبد الرحمن الداخل  تقول بعد أن نظر إلى نخلة:

 تبدت لنا وسط الرصافة نخلة =  تناءت بارض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى   =  وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي

ابو تمام:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا     =     وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة         =        وعلم وآداب وصحبة ماجد

أدب المهجر نظرة في المصطلح

كلمة “أدب المهجر” تعني الكتابة الأدبية التي تمت كتابتها بعيدا عن الوطن الام، واقترن في تاريخيتة بالقمع السياسي وبالعقم الاقتصادي،   
او فرارا من الحروب الأهلية والفتن الطائفية بحثا عن الأمان والاستقرار، فأسسوا مجتمعات خاصة بهم، وأنشأوا تجمعات ادبية، وأصدروا جرائد خاصة  بهم. وبرز منهم شعراء عديدون هم الذين أصبحنا نطلق عليهم لقب شعراء المهجر.
ذلك انه حينما يخطر أدب المهجر على البال تخطر معه كمهاد تلك الحكايات الممزوجة  بالاغتراب عن الأوطان والتي يعكسها الكثير من الشعراء في قصائد شعرية، وأسسوا العديد من  الأندية الثقافية والمجلات والصحف والصالونات الأدبية كما لو كانوا في أوطانهم الأصلية فبادروا الى تأسيس جمعيات وإصدار صحف ونشرات تحتضن أنشطتهم ومنجزاتهم الأدبية والاجتماعية
 فأُنشِئت سنة 1920 في المهجر الشمالي الرابطة القلمية بنيويورك ورأَسها جبران خليل جبران وكان لسان حالها جريدة السّائح
وفي المهجر الجنوبي أسس الشاعر ميشال معلوف في العاصمة البرازيلية العصبةَ الأندلسية ومجلتها " الأندلس الجديدة "
فيما  ظهرت  العديد من الأندية والرابطات   فأسس أحمد زكي أبو شادي سنة1948 رابطة مينيرفا في نيويورك، وجماعة أبولو،  وأسّس الشاعر جورج صيدح الرابطة الأدبية سنة 1949 بالعاصمة الأرجنتينية
لكن   الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ظلتا كمدرستين  مستقلتين ميلادا ومصدرا  لموجة ادبية جديدة  أسهمت بطريقة راسخة  في النهضة الأدبية العربية  واثرت في   الادب العربي  بشكل  واضح  وايجابي . تزامنا مع  نشوء بعض  حركات التجديد  التي  عرفها  الادب العربي وقتئذ..

خصائص الادب المهجري

إن  أدب المهاجر لا يكاد  يختلف من بلد أو من زمن لآخر.. فهو أدب غريب في  بلد غريب كما يقولون، إذ يشكل القاسم المشترك فيه الحفاظ على الهوية اللغوية والاثنية، والحنين الى الأوطان، والارتباط بالجذور، وعدم الانصهار الكلي بالثقافات وعادات البلد المضيف، ونشر المبادئ السامية والمثل العليا بين الناس.. كيف ما كان الأمر فإنه لن يمنع من إثارة أسئلة حول تاثير أدب  المهجر في الثقافات والآداب الموازية الأخرى التي أثرت على مظاهر حياتهم، وتعرف الغرب عبرهم على الصوت العربي وبدأت ترجمة النصوص التراثية والدينية والفلسفة الشرقية، وكانت تلك الجهود بداية ومدخلا لتجديد الأدب العربي ككل.. 
    
ومهما يكن من أمر فانه لا احد يستطيع أن يتصور أن حياة المهاجرين مفروشة بالورود والرياحين.. خاصة فيما يتعلق بالهجرة السرية والمضايقات وسوء استقبال دول المهجر.. إذ يقاسي معظمهم من حياة صعبة محفوفة بالمخاطر والاستلاب الفكري والروحي، فقط  تصبح اللغة والخيال الملاذ والمتنفس الذي يوحدهم في الشتات.. ولا غرابة أن  تهيمن النزعة  الصوفية والنبرة العاطفية المحملة بالحنين والحزن على  مجمل إمداداتهم

وإذا كان الاستعمار العثماني وراء النزوح الى الأمريكيتين، فان الاستعمار الجديد الفرنسي والانجليزي كان احد دوافع هجرات من نوع آخر اختلطت فيه الهجرات التقليدية مع مرور الأعوام، بالتهجير واللجوء السياسي والمنافي والدراسة والزواج المختلط والهجرة السرية فرارا من البطالة، والهرب من الاستعمار والقمع الذي تمارسه السلطات البلد.. وكان من المنطقي نشوء آداب مكتوبة باللغة الفرنسية او الاسبانية وبالانجليزية تحت الإكراهات الصعبة للاحتلال وكنوع من الاستلاب اللغوي وكنوع من الانتقام للوطن.. وهذا لا يمنع من القول باحتفاظ العديد من المثقفين العرب المغتربين على لغتهم وأصالتهم وهويتهم خاصة أولئك الذين رمت بهم الأقدار إلى بلاد لايتقنون لغة أهلها.. وأسسوا مجلات ودوريات ومنابر أدبية تتابع تحركاتهم وأنشطتهم الثقافية والعلمية.. ولا نمو بدون جذور كما يقولون، وهذه الجذور هي التي ستصنع فيما سنرى نوعا آخر من أدب المهاجر، لدى الجيل الثالث وما إليه والذي انعكس بشكل بليغ على هذه الآداب واثر فيها بطريقة أو  بأخرى..

وسوف تشهد فرنسا على الخصوص ابتداء من منتصف القرن الماضي أي بعد انحسار وانتهاء التاريخ الذهبي للهجرة العربية في الأمريكيتين موجات واسعة من الهجرات وذلك بحكم استعمارها لبلدان المغرب العربي، وفي وجود لغة مضيافة يتقنها هؤلاء الأهالي،  الذين اعتبروا من الدرجة الثانية كان لابد أن يكتب هؤلاء المهاجرون بلغة المستعمر ويعبرون بها عن أحاسيسهم وتطلعاتهم وهواجسهم. ونشأ أدب مهجري يتكلم لغة الوطن المضيف لكن بنبرة متوحشة لا تجامل ولا تهادن، وبها الكثير من التحدي للفرنسيين في عقر دارهم..

دون أن ننسى الكتابات التي تطرقت إلى موضوع المهاجرين ومشاكلهم النفسية والاقتصادية والاجتماعية من أثار  العزلات والزواج المختلط  والاعمال الهجينة التي  يقبل عليها  المهاجرون.. وما يسببه كل ذلك من  شروخ عميقة في الروح  البشرية  ونصادف في هذا  المضمار  كما هائلا من البحوث والسرود والبحوث الميدانية والدراسات أهمها على الخصوص  أعلى درجات العزلة  للطاهر  بن جلون وكتابات  اخرى عكست  آلام  ومعاناة  مهاجرين عديدين

عطفا على هذه الظواهر اللسانية يمكننا ملاحظة تداخل عنصرين في هذا السياق " التعدد اللغوي" و"تعدد الأصوات" لدى هؤلاء المهاجرين المتميزين بموقفين اثنين بدن هناك  وقلب في الوطن

 يعتبر كاتب  ياسين الفرنسية بمتابة " غنيمة حرب"، وهو الذي جعل من اللغة الفرنسية سلاحا لمحاربة المستعمر.. على حد  تعبيره.. " كان علي أن أتعلم اللغة الفرنسية.. عشت في عدة لغات، كنت في مدرسة فرنسية مع تلاميذ أوربيين وكان علي أن أسافر إلى فرنسا إلى عاصمة الامبريالية وبالمقابل أحسست انه لزاما علي ان أتكلم  الفرنسية أحسن من الفرنسيين  أنفسهم لإدهاشهم.. وليقولوا هذه هي  الجزائر" "

* مالك حداد :

" اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر المتوسط وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية.. إن الفرنسية لمنفاي"

* أمين الزاوي :

 "انا كاتب   باللغة العربية واللغة الفرنسية مستعمرتي  الجديدة"-
- "الكتابة شكل من أشكال المغامرة: هي مغامرة مع المواضيع والواقع واللغة أيضا. تحولي إلى الفرنسية كان إذاً مغامرة. كنت في فرنسا، مدرسا في إحدى الجامعات، وكنت أريد الوصول إلى القارئ الفرنسي، فوجب علي أن أخاطبه بلغته"

بالنسبة لمحمد خير الدين الذي  يصف الكتابة باللغة الفرنسية  نوعا من "حرب عصابات"  داخل  اللغة، ولأنه كما  يقول: "أنا هنا منذ 1965م لا أحسني منفياً على الإطلاق، لماذا؟ لأن الفرنسيين حين احتلونا، لم يشعروا أنهم منفيون، ولن أذهب إلى حد الادعاء أنني احتل فرنسا"

* يخلص الطاهر  بن جلون الذي  يعتبر  من الجيل الوسط  الذي هاجر من اجل  الدراسة الى القول:

"ويبدو لافتا في هذا السياق تأثير الهجرات العديدة والمتنوعة التي استقر البعض منها بطريقة بنيوية في البلاد بدهيا. يتقدم التمازج العرقي وتغتني الثقافة بالإضافات والإسهامات الجديدة سواء تعلق الأمر بالموسيقى أو الأدب أو فنون الطعام. لقد انتقلت الهجرة إلى مرحلة أخرى؛ بحيث لم نعد في زمن نزوح قرويين أميين من جبال المغرب والجزائر. اجتمع شمل العديد من الأسر وشهد التراب الأوروبي عددا وفيرا من الولادات. ولا يمكن في هذا الصدد اعتبار الأبناء المنحدرين من الهجرة مهاجرين"

*في  رواية  الحلم الفرنسي لمحمد حمودان نجده يقول: 

""أنا أرفض أن ألعب دور الـعربي المؤدب الذي يتغني طول النهار بـ (قيم الغرب الحضارية)، ب(الديمقراطية و الحداثة) في وجه هذا الشرق (المتخلف والمظلم)، فهناك العديد من الكتاب المغاربة وغيرهم ممن يكتبون بالفرنسية يقومون بذلك باحترافية مدهشة، فهم يتقنون ركوب موجات الموضة والإستجابة لما تنتظره منهم المؤسسة وبعض القراء! في آخر المطاف، يبقى هذا شأنهم وليس شأني"

* يقول  رشيد نيني:

"" المكان بدوره ليس رحيما إحساس بالحزن يلفني وأنا أعبر الشوارع. تستطيع أن تقضي النهار كله سائرا في الطريق دون أن تلقي السلام على أحد. عندما تأتي لتعيش هنا يجب أن تكون قد قررت أن تعيش بجذور مقصوفة. مثل النبتة التي تنتزع من تربتها لتستنبت في تربة أخرى"

هناك بالمقابل أدب يصف حال المهاجرين كتبه أبناء مهاجرين يصفون فيها حال آبائهم  ومعاناتهم ومكابداتهم في بلاد الروم، وهذه الكتابات بالرغم من أنها كتبت بعيدا عن تجربة اجواء الهجرة فإنها محملة بالألم والحزن، يقول الشاعر المغربي محمد علي الرباوي في مجمل نصوص " من مكابدات السندباد المغربي"، والذي يترجم من خلاله مقدار تاثره بغربة والده، وما تكبده من معاناة وعنصرية وإقصاء سواء في بلاد الله الأخرى أو في وطنه الذي بخل عليه بقبر يأويه ويستره.. ..
" إلى أبي في أرض الوطن

أَعْرِفُ أَنَّكَ كُنْتَ غَرِيبَا
في أَرْضِ الرُّومِ غَرِيبَا
تَلْتَهِمُ الأَوْرَاشُ دِمَاكَ الفَوَّارَةَ
تَأْتِيكَ مِنَ الأَحْبَابِ رَسَائِلُ
بَلْ تَأْتِيكَ قَنَابِلُ
تَفْتَحُهَا: لِتُحِسَّ الغُرْبَةَ تَقْطَعُ أَوْصَالَكَ
فَٱلْحَرْفُ أَمَامَكَ غَابَةُ صَفْصَافٍ
مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَحِمَ الغَابَةَ
مِنْ غَيْرِ سِلاَحٍ
آهٍ مَنْ يَقْدِرْ

ختاما لا اجد سوى مقطعا من قصيدة الظل العالي لمحمود درويش  يقول فيها والكلام  موجه  لفلسطينيي لشتات

القمحُ مُرٌّ فى حقول الآخرين ، و الماءُ مالح
و الغيمُ فولاذٌ ، و هذا النجمُ جارح
و عليك أن تحيا ، و أن تُعطى مقابل حبة الزيتون
جلدك
كم كنتَ وحدك يا ابنَ أُمى ،
كم كنت وحدك

===================

* مداخلة في ندوة حول ادب  المهجر بالدورة العاشرة لمهرجان ربيع الشعر     بمولاي ادريس   زرهوزن 8 - 9 - 10 - 2013

السبت، 26 أبريل 2014

الأدب المهجري تاريخه خصوصياته ومظاهره
نقوس المهدي  
 


لا يمكن تحقيب الأدب ودراسته بحسب التقسيم المرحلي فحسب، بل ينتظم أيضا بحسب الاشخاص والحركات والمدارس الأدبية، لأن التاريخ  عبر مساره الطويل عرف العديد من موجات النزوح الفردية  والجماعية.. وبالتالي فقد عرف ميلاد العديد من المدارس الأدبية وخصوصياتها الجمالية.. من هذا المنطلق يمكننا الحديث عن أدب مهجري قائم بذاته.. لكن أن تكون له مدرسة فنية تميزه وتؤرخ له فذلك لم يبتدئ إلا مع موجات الهجرات الجماعية من الشام إلى الأمريكيتين.. هربا من الخدمة العسكرية والاضطهاد والقهر والاستبداد والظلم الاجتماعي والاضطهاد الديني والعرقي وضيق الحال.. بين الفترات الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر إلى حوالي النصف الأول من القرن العشرين، بحثا عن سماوات أخرى اقل ضيقا وأكثر رحابة وحرية وانطلاقا، وكان لا بد أن يحمل هؤلاء المهاجرين - الذين تجاوز عددهم بحسب التقديرات حوالي مليوني مهاجر -   إلى الضفاف الأخرى بدل الأمتعة أمانيهم وثقافاتهم وأحلامهم الواسعة التي لا ضفاف لها، مبشرين بالتعايش والتسامح ونشر حوار الحضارات وروح المثاقفة، الشيء الذي حدا بالرئيس الأميركي روزفلت إلى مخاطبة جبران خليل جبران بتعبير جميل وجد معبر: " أنت أول عاصفة انطلقت من الشرق واكتسحت الغرب، ولكنها لم تحمل إلى شواطئنا إلا الزهور..

كان أدباء المهجر على اختلاف مشاربهم وإثنياتهم وتطلعاتهم ومذاهبهم الفكرية والعقدية والدينية يوحدهم عشق الحرف وصدق الانتماء للأرض والوطن والآمال الجمعية العريضة إلى التحرر وحرية الإبداع والمعتقد، وكان لزاما أن يحملوا معه لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم ولهجاتهم ويكتبون أدبا عربيا متأثرا طبعا بما هو رائج في تلك المجتمعات التي غطت كامل تراب الأمريكيتين، وكان صعبا أيضا أن لايتم ذلك الانصهار السريع للجاليات الممزوجة بلحام العروبة والدم والوطن والدين في تلك المجتمعات، مما سيصنع منها شبه شعب متحد في مجتمع جديد " غريب الوجه واليد واللسان.. " كما يقول المتنبي واصفا اغترابه في بلاد فارس.. حتى أننا نستطيع الجزم بأن كل التحولات العظيمة التي طرأت على تاريخ الأدب والفن العربيين تمت علي أيدي هؤلاء الأدباء المهاجرين بحكم تأثرهم  بالبيئة الامريكية وبعطاءات المدارس الرومانسية والرمزية الغربية من جهة، فظهرت تبعا لهذه  الطموحات والتحولات العديد من المدارس والمجلات الأدبية، وعرفت الساحة الأدبية أنماطا لم يعهدها الأدب العربي من قبل تجلت في بعض المحاولات النّثرية وإرهاصات الكتابة الروائية والقصصية لذا هذا الجيل الأول، ونشأت نظريات ورؤى تجديدية انعكست ايجابيا على مستوى الشكل والمضمون والروح، وبالحركات التجديدية لكل من مدرسة الديوان وشعراء مدرسة ابولو وغيرهم من الشعراء المجددين.. في وقت كان الأدب  العربي  يعاني  من  يبس الركود والتقهقر، والنهضة العربية في بداياتها المبكرة تتلمس بالكاد طريقها، وتعيد باستحياء إنتاج وبعث نصوص تراثية هجينة..

إن مفهوم الأدب المهجري وتداعياته وشجونه ومواضيعه وخصوصياته يكاد يكون قاسما مشتركا في كتابات جميع الأدباء والمثقفين المغتربين، وحتى بالنسبة للسلالات اللاحقة في ما يطلق عليه أدب الدياسبورا.. والتي تراوح بين انتماءين ووطنين وجنسيتين وهويتين وثقافتين..

هذه البينونة هي التي تمنح الأدب المهجري هويته وخصوصياته وقيمته الجمالية بين الآداب والفنون الأخرى، والثقافات المتنوعة والحضارات. وتسعى باستماتة قصوى إلى مقاومة الاستلاب والتغريب وتهديد الهوية..

فهذا الشاعر  العباسي أبو الحسن علي ابن زريق البغدادي   يصف  في قصيدة  الفراقية الشهيرة   لوعته وحسرته   على فراق أهله  وزوجته التي  هاجر من اجلها طلبا لسعة الرزق   في بلاد الأندلس الذي  اعتبر  الملاذ الأول الذي  استقبل العديد من الشعراء في تلك   الأحقاب:  

اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً = بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي = صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً = وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ = وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

أما قبل..  وتحديدا بالقرن الثامن نصادف أبياتا  لعبد الرحمن الداخل  تقول بعد أن نظر إلى نخلة:

 تبدت لنا وسط الرصافة نخلة =  تناءت بارض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى   =  وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي

ابو تمام:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا     =     وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة         =        وعلم وآداب وصحبة ماجد

أدب المهجر نظرة في المصطلح

كلمة “أدب المهجر” تعني الكتابة الأدبية التي تمت كتابتها بعيدا عن الوطن الام، واقترن في تاريخيتة بالقمع السياسي وبالعقم الاقتصادي،   
او فرارا من الحروب الأهلية والفتن الطائفية بحثا عن الأمان والاستقرار، فأسسوا مجتمعات خاصة بهم، وأنشأوا تجمعات ادبية، وأصدروا جرائد خاصة  بهم. وبرز منهم شعراء عديدون هم الذين أصبحنا نطلق عليهم لقب شعراء المهجر.
ذلك انه حينما يخطر أدب المهجر على البال تخطر معه كمهاد تلك الحكايات الممزوجة  بالاغتراب عن الأوطان والتي يعكسها الكثير من الشعراء في قصائد شعرية، وأسسوا العديد من  الأندية الثقافية والمجلات والصحف والصالونات الأدبية كما لو كانوا في أوطانهم الأصلية فبادروا الى تأسيس جمعيات وإصدار صحف ونشرات تحتضن أنشطتهم ومنجزاتهم الأدبية والاجتماعية
 فأُنشِئت سنة 1920 في المهجر الشمالي الرابطة القلمية بنيويورك ورأَسها جبران خليل جبران وكان لسان حالها جريدة السّائح
وفي المهجر الجنوبي أسس الشاعر ميشال معلوف في العاصمة البرازيلية العصبةَ الأندلسية ومجلتها " الأندلس الجديدة "
فيما  ظهرت  العديد من الأندية والرابطات   فأسس أحمد زكي أبو شادي سنة1948 رابطة مينيرفا في نيويورك، وجماعة أبولو،  وأسّس الشاعر جورج صيدح الرابطة الأدبية سنة 1949 بالعاصمة الأرجنتينية
لكن   الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية ظلتا كمدرستين  مستقلتين ميلادا ومصدرا  لموجة ادبية جديدة  أسهمت بطريقة راسخة  في النهضة الأدبية العربية  واثرت في   الادب العربي  بشكل  واضح  وايجابي . تزامنا مع  نشوء بعض  حركات التجديد  التي  عرفها  الادب العربي وقتئذ..

خصائص الادب المهجري

إن  أدب المهاجر لا يكاد  يختلف من بلد أو من زمن لآخر.. فهو أدب غريب في  بلد غريب كما يقولون، إذ يشكل القاسم المشترك فيه الحفاظ على الهوية اللغوية والاثنية، والحنين الى الأوطان، والارتباط بالجذور، وعدم الانصهار الكلي بالثقافات وعادات البلد المضيف، ونشر المبادئ السامية والمثل العليا بين الناس.. كيف ما كان الأمر فإنه لن يمنع من إثارة أسئلة حول تاثير أدب  المهجر في الثقافات والآداب الموازية الأخرى التي أثرت على مظاهر حياتهم، وتعرف الغرب عبرهم على الصوت العربي وبدأت ترجمة النصوص التراثية والدينية والفلسفة الشرقية، وكانت تلك الجهود بداية ومدخلا لتجديد الأدب العربي ككل.. 
    
ومهما يكن من أمر فانه لا احد يستطيع أن يتصور أن حياة المهاجرين مفروشة بالورود والرياحين.. خاصة فيما يتعلق بالهجرة السرية والمضايقات وسوء استقبال دول المهجر.. إذ يقاسي معظمهم من حياة صعبة محفوفة بالمخاطر والاستلاب الفكري والروحي، فقط  تصبح اللغة والخيال الملاذ والمتنفس الذي يوحدهم في الشتات.. ولا غرابة أن  تهيمن النزعة  الصوفية والنبرة العاطفية المحملة بالحنين والحزن على  مجمل إمداداتهم

وإذا كان الاستعمار العثماني وراء النزوح الى الأمريكيتين، فان الاستعمار الجديد الفرنسي والانجليزي كان احد دوافع هجرات من نوع آخر اختلطت فيه الهجرات التقليدية مع مرور الأعوام، بالتهجير واللجوء السياسي والمنافي والدراسة والزواج المختلط والهجرة السرية فرارا من البطالة، والهرب من الاستعمار والقمع الذي تمارسه السلطات البلد.. وكان من المنطقي نشوء آداب مكتوبة باللغة الفرنسية او الاسبانية وبالانجليزية تحت الإكراهات الصعبة للاحتلال وكنوع من الاستلاب اللغوي وكنوع من الانتقام للوطن.. وهذا لا يمنع من القول باحتفاظ العديد من المثقفين العرب المغتربين على لغتهم وأصالتهم وهويتهم خاصة أولئك الذين رمت بهم الأقدار إلى بلاد لايتقنون لغة أهلها.. وأسسوا مجلات ودوريات ومنابر أدبية تتابع تحركاتهم وأنشطتهم الثقافية والعلمية.. ولا نمو بدون جذور كما يقولون، وهذه الجذور هي التي ستصنع فيما سنرى نوعا آخر من أدب المهاجر، لدى الجيل الثالث وما إليه والذي انعكس بشكل بليغ على هذه الآداب واثر فيها بطريقة أو  بأخرى..

وسوف تشهد فرنسا على الخصوص ابتداء من منتصف القرن الماضي أي بعد انحسار وانتهاء التاريخ الذهبي للهجرة العربية في الأمريكيتين موجات واسعة من الهجرات وذلك بحكم استعمارها لبلدان المغرب العربي، وفي وجود لغة مضيافة يتقنها هؤلاء الأهالي،  الذين اعتبروا من الدرجة الثانية كان لابد أن يكتب هؤلاء المهاجرون بلغة المستعمر ويعبرون بها عن أحاسيسهم وتطلعاتهم وهواجسهم. ونشأ أدب مهجري يتكلم لغة الوطن المضيف لكن بنبرة متوحشة لا تجامل ولا تهادن، وبها الكثير من التحدي للفرنسيين في عقر دارهم..

دون أن ننسى الكتابات التي تطرقت إلى موضوع المهاجرين ومشاكلهم النفسية والاقتصادية والاجتماعية من أثار  العزلات والزواج المختلط  والاعمال الهجينة التي  يقبل عليها  المهاجرون.. وما يسببه كل ذلك من  شروخ عميقة في الروح  البشرية  ونصادف في هذا  المضمار  كما هائلا من البحوث والسرود والبحوث الميدانية والدراسات أهمها على الخصوص  أعلى درجات العزلة  للطاهر  بن جلون وكتابات  اخرى عكست  آلام  ومعاناة  مهاجرين عديدين

عطفا على هذه الظواهر اللسانية يمكننا ملاحظة تداخل عنصرين في هذا السياق " التعدد اللغوي" و"تعدد الأصوات" لدى هؤلاء المهاجرين المتميزين بموقفين اثنين بدن هناك  وقلب في الوطن

 يعتبر كاتب  ياسين الفرنسية بمتابة " غنيمة حرب"، وهو الذي جعل من اللغة الفرنسية سلاحا لمحاربة المستعمر.. على حد  تعبيره.. " كان علي أن أتعلم اللغة الفرنسية.. عشت في عدة لغات، كنت في مدرسة فرنسية مع تلاميذ أوربيين وكان علي أن أسافر إلى فرنسا إلى عاصمة الامبريالية وبالمقابل أحسست انه لزاما علي ان أتكلم  الفرنسية أحسن من الفرنسيين  أنفسهم لإدهاشهم.. وليقولوا هذه هي  الجزائر" "

* مالك حداد :

" اللغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني أشد وأقوى من حاجز البحر المتوسط وأنا عاجز عن أن أعبر بالعربية عما أشعر به بالعربية.. إن الفرنسية لمنفاي"

* أمين الزاوي :

 "انا كاتب   باللغة العربية واللغة الفرنسية مستعمرتي  الجديدة"-
- "الكتابة شكل من أشكال المغامرة: هي مغامرة مع المواضيع والواقع واللغة أيضا. تحولي إلى الفرنسية كان إذاً مغامرة. كنت في فرنسا، مدرسا في إحدى الجامعات، وكنت أريد الوصول إلى القارئ الفرنسي، فوجب علي أن أخاطبه بلغته"

بالنسبة لمحمد خير الدين الذي  يصف الكتابة باللغة الفرنسية  نوعا من "حرب عصابات"  داخل  اللغة، ولأنه كما  يقول: "أنا هنا منذ 1965م لا أحسني منفياً على الإطلاق، لماذا؟ لأن الفرنسيين حين احتلونا، لم يشعروا أنهم منفيون، ولن أذهب إلى حد الادعاء أنني احتل فرنسا"

* يخلص الطاهر  بن جلون الذي  يعتبر  من الجيل الوسط  الذي هاجر من اجل  الدراسة الى القول:

"ويبدو لافتا في هذا السياق تأثير الهجرات العديدة والمتنوعة التي استقر البعض منها بطريقة بنيوية في البلاد بدهيا. يتقدم التمازج العرقي وتغتني الثقافة بالإضافات والإسهامات الجديدة سواء تعلق الأمر بالموسيقى أو الأدب أو فنون الطعام. لقد انتقلت الهجرة إلى مرحلة أخرى؛ بحيث لم نعد في زمن نزوح قرويين أميين من جبال المغرب والجزائر. اجتمع شمل العديد من الأسر وشهد التراب الأوروبي عددا وفيرا من الولادات. ولا يمكن في هذا الصدد اعتبار الأبناء المنحدرين من الهجرة مهاجرين"

*في  رواية  الحلم الفرنسي لمحمد حمودان نجده يقول: 

""أنا أرفض أن ألعب دور الـعربي المؤدب الذي يتغني طول النهار بـ (قيم الغرب الحضارية)، ب(الديمقراطية و الحداثة) في وجه هذا الشرق (المتخلف والمظلم)، فهناك العديد من الكتاب المغاربة وغيرهم ممن يكتبون بالفرنسية يقومون بذلك باحترافية مدهشة، فهم يتقنون ركوب موجات الموضة والإستجابة لما تنتظره منهم المؤسسة وبعض القراء! في آخر المطاف، يبقى هذا شأنهم وليس شأني"

* يقول  رشيد نيني:

"" المكان بدوره ليس رحيما إحساس بالحزن يلفني وأنا أعبر الشوارع. تستطيع أن تقضي النهار كله سائرا في الطريق دون أن تلقي السلام على أحد. عندما تأتي لتعيش هنا يجب أن تكون قد قررت أن تعيش بجذور مقصوفة. مثل النبتة التي تنتزع من تربتها لتستنبت في تربة أخرى"

هناك بالمقابل أدب يصف حال المهاجرين كتبه أبناء مهاجرين يصفون فيها حال آبائهم  ومعاناتهم ومكابداتهم في بلاد الروم، وهذه الكتابات بالرغم من أنها كتبت بعيدا عن تجربة اجواء الهجرة فإنها محملة بالألم والحزن، يقول الشاعر المغربي محمد علي الرباوي في مجمل نصوص " من مكابدات السندباد المغربي"، والذي يترجم من خلاله مقدار تاثره بغربة والده، وما تكبده من معاناة وعنصرية وإقصاء سواء في بلاد الله الأخرى أو في وطنه الذي بخل عليه بقبر يأويه ويستره.. ..
" إلى أبي في أرض الوطن

أَعْرِفُ أَنَّكَ كُنْتَ غَرِيبَا
في أَرْضِ الرُّومِ غَرِيبَا
تَلْتَهِمُ الأَوْرَاشُ دِمَاكَ الفَوَّارَةَ
تَأْتِيكَ مِنَ الأَحْبَابِ رَسَائِلُ
بَلْ تَأْتِيكَ قَنَابِلُ
تَفْتَحُهَا: لِتُحِسَّ الغُرْبَةَ تَقْطَعُ أَوْصَالَكَ
فَٱلْحَرْفُ أَمَامَكَ غَابَةُ صَفْصَافٍ
مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَحِمَ الغَابَةَ
مِنْ غَيْرِ سِلاَحٍ
آهٍ مَنْ يَقْدِرْ

ختاما لا اجد سوى مقطع من قصيدة الظل العالي لمحمود درويش  يقول فيها والكلام  موجه  لفلسطينيي لشتات

القمحُ مُرٌّ فى حقول الآخرين ، و الماءُ مالح
و الغيمُ فولاذٌ ، و هذا النجمُ جارح
و عليك أن تحيا ، و أن تُعطى مقابل حبة الزيتون
جلدك
كم كنتَ وحدك يا ابنَ أُمى ،
كم كنت وحدك





===================

* مداخلة في ندوة حول ادب  المهجر بالدورة العاشرة لمهرجان ربيع الشعر     بمولاي ادريس   زرهوزن 8 - 9 - 10 - 2013

السبت، 12 أبريل 2014

نقوس المهدي
        "ذكريات سرمدية" للشاعر عبد اللطيف بحيري
        قراءة في العتبات

   
        ديوان " ذكريات سرمدية "  SOUVENIRS  VIVACES " هو العمل الشعري الثاني  باللغة الفرنسية  ضمن المنجز الإبداعي الذي استهله للشاعر المغربي عبد اللطيف بحيري بديوانه الأول الموسوم بــــ   "   Bribes  et  étincelles " "شظايا وشرر"، ومن باب الفضول المعرفي القول بان النقد السيميائي يشترط فيما يعترف عليه بالخطاب المقدماتي البحث في "عتبات النص"، وهي انساق ظاهراتية تنطلق بنا من الدرجة الصفر في الكتابة، وتتيح لنا الحفر في فصوص النصوص والبحث في عدة علامات وأيقونات مح ددة نستطيع بواسطتها فهم الدلالات والإيماءات التي تمكننا من الولوج إلى الجو العام للديوان وفضاءاته واشتغالاته وحمولاته الابيستيمية، وذلك من خلال فك شفرة: اسم المؤلف، العنوان، اللوحة، دار النشر، تاريخ النشر، الإهداء، المقدمة، الخطوط، الكاليغرام، الانزياح والتورية والاستعارات والأحابيل اللغوية، وبالرغم من بداهة هذه الإشارات والإيحاءات الدلالية فإنها تشكل بالضرورة إحدى السمات الإجرائية والتفاصيل البصرية والفنية التي تشكل في مجملها مرجعية مهمة ومفتاحا لآليات معينة وظف  ها الشاعر لإيصال خطابه
        ويتكون ديوان " ذكريات سرمدية " " Souvenirs  vivaces " الصادر عن مطبعة سليكي اخوين بطنجة 2013 ،  من 78 صفحة، ويتضمن 65 عنوانا، تتوزع على عدة أغراض وتيمات معينة على شكل تراتبي، وتسعى على مستوى وحدة المواضيع التعبير عن مراحل زمنية وتشكيل الكون ومخلوقاته وتأثيثه بكل ما هو ضروري وأساسي، وتصويره على نحو من التسامح والمحبة عبر مرجعيات دينية صوفية عرفانية،  تتوخى صفاء الروح، وتحصين الذات ضد كل ضروب الاغتراب والالينة والخراب والضياع، عبر عناوين تنحو في شقها النحوي إلى استخدام الأسماء بدلاً من الأفعال التي تعني الحركية، لنزوع الشاعر للاستقرار والاستمرارية والإقبال على الحياة من خلال بعث الماضي لا دفنه، وخلق العالم على الطريقة الأفلاطونية، وتأثيثه بالجمال وبعثه من غير سوء على طريقة الشعراء والفنانين مستعينا بعناصر الطبيعة الأربعة بحسب التفسير الأرسطي. "ماء هواء تراب ونار"، وتوظيفها بالتفاصيل والجزيئات الدقيقة ذاتها لتشكيل فضاءات المتن الشعري، والتحكم فيها بشكل عقلاني وموضوعي ومن غير إسقاطات إيديولوجية.. ذلك انه ففي البدء كانت الهيولى، وكان الكلمة، وكان الشعر، وكان القلم، وكانت ربة الشعر، والشاعر

       ( متربعا على رصيف مقهى كبير
        يتذوق بلذاذة لحيظات الهناء
        الانسان الهادئ ابدا
        برغم الضجيج ورغم العناء)
        قصيدة "تفتح" -  ص7

        (ريشته الهزيلة تتعثر على صفحة
        تخط أحلاما و ضفافا ارحب
        افاقا بعيدة وشطانا مليحة
        لا ضجر حوله ولا صخب)
        قصيدة "سفر تكوين"-  ص8

        ويبدو التناص مع النصوص الدينية والإشارات الروحانية جليا عبر توظيف عدة ظواهر وردت في المصادر الدينية، وتشير إلى التحول الذي عرفه الكون منذ بدء الخليقة، ذلك لاعتقاده بـــ " ان الجمال سوف ينقد العالم" كما يقول دوستويفسكي
        وانطلاقا من هذه المقولة ندرك هذا التفاعل والانسجام بين الشاعر والوجود، والتماهي بين الحلم والواقع لخلق عالم فاضل، موغلا بالقصيدة إلى أعمق أعماق الروح الانسانية مستلهما مكنونات ومكونات الطبيعة والمشاكل الوجودية المتشابكة في حالة من التوافق الروحي، والتأمل الرصين، وصدق السريرة وصحة العقيدة " الدوكسا". والإحساس الصوفي العميق الذي يحيل على الصفاء الروحي العرفاني في أبهى تجلياته. إذ تتكرر لفظة الروح حوالي 33 مرة، فيما تتردد مفردات الحلم وأحلام اليقظة والذكريات وغيرها من المتواليات المعجمية " isotopies "  مرات عدة. ولهذا التكرار اللفظي دلالاته السيميائية القصوى، ذلك أننا حينما نلتجئ إلى مثل هذه الإحصاءات والتأويلات والمقاربات النقدية في تحليل النصوص ومراهنة الشاعر عليها في تبليغ رسالته، نضع نصب أعيننا ما كتب من سرود طويلة بدون نقطة ولا فاصلة، وما اشتمل عليه ديوان أناشيد مالدورور للشاعر الفرنسي لوتريامون من أسماء بلغت 185 اسم حيوان وكذا 435 إحالة للحياة الحيوانية وقس على هذا

        - دلالة العنوان

        العنوان هو المدخل الأساسي الذي يعطينا انطباعا أوليا حول مضمون الكتاب. ويبدو جليا بان وظيفة العنوان في العمل الأدبي هو بمتابة نجمة القطب التي نستدل على هديها لاستكشاف خبايا العمل الابداعي، ذلك أن اختيار العنوان ليس عملاً شكلياً معزولا عن فضاء النصوص، بل هو دلالة ايقونية منتزعة من صميمها، إنه وان كان يقدم نفسه بصفته عتبة للنص كما يعرف ذلك السيميائيون، فانه بالمقابل لا يمكننا باية حال الولوج إلى عالم النص دون اجتياز هذه العتبة
        وغير خاف على احد بان الأدباء من الأجيال المتقدمة على وجه الخصوص كانوا أشد عناية وعلى أتم وعي بمسألة العنوان والشكل والخط، فحينما نتطرق للعنوان أو مسألة الشكل الظاهري للكتاب لا ننسى الإشارة إلى أن الشعراء منذ القديم اهتموا بإعطاء عناوين لأشعارهم مثل اسم المعلقات والمذهبات والمفضليات والأصمعيات، فيما يفي المطلع في قصائد اخرى بالقصد والغرض، بعكس بعض الذين انتهجوا طريقة عنونة أشعارهم ومصنفاتهم بطريقة جذابة وتفننوا في اختيار عناوين مموسقة وجذابة وغريبة في بعض الأحيان. وتحبيرها بخط بديع وزاهي لرغبتهم في تمييز مصنفاتهم عن باقي الكتب والإصدارات. وشد المتلقي إليهم، وإغرائه بصورة أو أخرى لقراءة الكتاب واقتنائه
        إذن العنوان محرض أساسي
        العنوان شريك متواطئ بين الكاتب وقارئه.
        بعض الكتب تمارس علينا فعل الغواية
        وبعض العناوين تستميلنا
        وبعض الكتب نقتنيها لأشكالها أو لعناوينها أو لمضامينها
        ليس هناك كتب مخادعة.
        وليس هناك كتب من دون فائدة
        قل لي ماذا تقرأ أقول لك من أنت
        وبالرغم من كونه يوحي في الاضمومة على التفكير بالماضي ظاهريا فهو لصيق بواقع الحال، انطلاقا من هنا يمكن تفسير ذكريات سرمدية كضرب من استقراء الزمن الحاضر عبر استنفار الاحاسيس واستدعاء الحلم وحلم اليقظة والغنوص والذكريات والأمنيات والامل في البحث عن نبتة الخلود، عبر تفكيك الكون بكل فسيفسائه وتفاصيله وخباياه، ثم اعادة رأبه وبعثه من جديد، رحلة في عمق الزّمن البروستي ماضيا وحاضرا ومستقبلا، من خلال المراهنة على اقتناص اللحظة الشعرية والشعورية.
        عنوان برغم عتاقة دلالاته وارتباطه بما هو ماض لا في مفهومه القدري، لكن بما  ينضح  به من قلق وجودي تشوفي، يربط الشاعر براهنه ويوثق له ويستشرف آفاق متخيلة لما يجب ان يكون عليه العالم من تحرر  وسلام  ومساواة وتسامح. انه التفكير  بالم ومعاناة، ذلك أنه بحسب تعبير خورخي لويس بورخيس: " نحن حديثون بفعل الواقع البسيط في أننا نعيش في الزمن الحاضر. لم يكتشف احد بعد فن العيش في الماضي. وحتى المستقبليون لم يكتشفوا سر العيش في المستقبل. أننا حديثون، شئنا ذلك او أبيناه.

        دلالة اللوحة

        بعد العنوان طبعا تشكل صورة الغلاف إحدى الدلالات الايقونية. ومفتاحا نلج بفضله إلى الجو العام للعمل، من هنا يتخد النص الشعري المتوسل بالبيان واللغة هيأة نص فني بصري مواز يرتكز على الخطوط والمشاهد والالوان، وذلك متأت من وجوب وضرورة موافقة لوحة الغلاف لتيمة العنوان الذي يشترط فيه التعبير عن الجو العام للمجموعة، "ففن الشعر يعالج مشكلات الأبنية اللغوية بنفس الكيفية التي يهتم فيها تحليل الرسم بالأبنية التشكيلية." بحسب جاكوبسون
        وتتكون اللوحة هنا من مجسم غير واضح المعالم يجمع بين التشكيل/ التصوير، يهيمن عليه لون بني بين فاتح وغامق، تظهر من خلاله تخطيطات هلامية، في جانبها السفلي تتدلى صورة لأشخاص مظللين وغير محددي السحنات. شدة التظليل لا تسمح لنا بتحديد سيمائهم وحسم جنسهم، فيما يشكل المنظر بكامله لوحة فنية تغطي المجموعة، من الجهة الأمامية والخلفية، ومقاصده الدلالية اولا واخيرا، وهذا مؤشر اضافي لتفعيل قوة التخييل، فالذاكرة كما يشار إليها موشومة بالإيحاءات، بالحلم، بالرسوخ، بالديمومة، بالثبات، بالامتداد في الماضي، بالتمدد في الزمن الحاضر واستشراف المستقبل المشرق بالامل والفرح..

        - المقدمة

        من خلال المقدمة التي انجزها د. علي لحريشي يمكننا ان نستشف بان هذا الديوان الشعري هو
        "رحلة مسافر بين الكلمات اهابها أضحى مخطوطة مرصعة بذكريات حياة، مفعمة بالحب والفرح. بالأوهام والأحزان. التي تكتسب على التوالي حياتها على الصفحات البيضاء وتقبض على الزمن
        كل قصيدة هي ولادة دائمة يتم بمقتضى فعلها الإبداعي خلق ذكرى دائمة تكوي جلد الشاعر عبد اللطيف بحيري مثل أرواح أو حالة نشوة، لتخليص الروح المعذبة من تداعيات الماضي
        ماض حاضر موشى بالحب، بالأسى، بالحنان، بالإدراك، بخيبة الأمل، بالفرح، بالرغبات، بالريبة، بالقلق، بالمخاوف، بالأمل، باليأس، بالجنون، بالحكمة، بالانبعاث، بالتجدد.. دفق من المشاعر التي يستعرضها الشاعر في هذه الاضمومة والتي تشكل على مدى صفحاتها حياة بكاملها على هيأة ذكريات دائمة.. إنها مجموعة تلقي بنا في حميمية ناظمها، انطلاقا من هذه اللحظة القاسية الصعبة للإبداع، وهذه الدعوة إلى ملهمته، والمناجاة مع الطبيعة
        حينما يولع الشاعر بكل فعل، بكل حرف صامت، بكل حرف صائت، يصرفهم بطريقة هارمونية واحدا واحدا وفقا لآلامه وأفراحه مثل أستاذ، يطلق رشاش يراعه ليسلمنا الى دوامة الأبيات التي تنشد هذا الطرب البهيج
        بالنسبة لعبد اللطيف بحيري القصيدة هي إقلاع دائم، سفر في متاهات الروح، التي تنبثق أيضا من بين كلماتها. إذن هي ذكريات دائمة، وهي بالنهاية باقة زاهية الألوان من صميم حياة الشاعر"

        عطفا على كل هذه المقدمة البديعة المركزة، نخلص إلى أن هذه المعطيات والرؤى التأويلية هي وسيلة الشاعر عبد اللطيف بحيري للقبض على الزمن الضائع والسفر بنا بين تلافيف ذاكرة موشومة بالجمال والفرح والألم والأمل، ليستعيد لنا من خلال أشعاره البديعة حياة كاملة غير مصابة بامنيزيا الأحداث والذكريات، وتشتغل على مثنوية الماضي السحيق والحاضر العميق بكل خساراته، كيف يمكن إذن للذكريات وهي محض أحداث وتهويمات وتهيؤات وأخيلة آنية عفا عليها الزمن، وأصبحت في حكم الماضي البعيد ان تبعث وتصبح ثابتة وراسخة وأبدية وربما حية في لاوعي الشاعر وملازمة له على الدوام
        يقول برغسون: "ان كل حياتنا الماضية موجودة بأكملها، بأدق تفاصيلها ونحن لا ننسى شيئا، وكل ما أدركناه وفكرنا فيه وأردناه منذ بزوغ شعورنا يظل موجودا إلى غير نهاية"
        هكذا نختصر علاقة الشاعر بالزمن وبالأشياء والامكنة والمحسوسات، وبتطلعاته المحفوفة بالهواجس والكبوات الى حياة أكثر إشراقا ممهورة بالأمل والفرج، هذا التناقض في المفاهيم والرؤى يكسب الحياة توازنا وكمالا، لان الحياة بروتينيتها وبندرة التجارب فيها لا تستحق أن تعاش. لا بد هناك من عشق لهذه الحياة ومن معاناة وألم.. هكذا على الأقل ما نتصور. لا يقول الشاعر ذلك مباشرة، بل يوثر ان يحدثنا عن الشواطئ والبحار والمحيطات وفصل الربيع، عن عطر الزهور وتفتح الورود وابتهاج الطبيعة، وعن الزمن الماضي والذكريات والأحلام لكن ايضا عن الاكراهات والخسارات والحروب والبراكين وكل ما يوحي بذلك
        لكل هذا تأتي النصوص تبعا لتصورات ومزاج الشاعر مفعمة بشحنات من العواطف الجياشة. تختزل مسيرة الكون الشاعر وتربطه بماضيه وبذكرياته وبالأشياء التي يتوجس فيها علاقة بالأشياء الحميمية والجميلة التي تحسسه بكينونته، وتمنحه دفقا من الأمل لمواصلة الحياة والانصهار فيها حتى ليبدو للقارئ بأن النصوص تنحو نحو الاحتفاء بالتفاصيل اليومية والمرئيات والتصورات بطريقة لا تخلو من "النوستالجيا" والتوق لزمن أفضل ينقذنا من عزلاتنا وخساراتنا المزمنة في واقع يغلفه الحزن والألم. هذا الانفلات الزمكاني المراوح بين متتاليات محسوبة قاسمها المشترك التذكر والتخيل، الانفتاح والانغلاق، الوضوح والإبهام، الإشراق والقتامة، الحقيقة والخيال، اليقين والوهم، السكينة والحيرة، الحلم وحلم اليقظة في مطلقهم اليقيني كمحاولة للتشبت بالحياة وبعثها من رمادها كالفينيق

        - الإهداء

        هناك دوما خصوصيات في دواخل الشاعر لا يمكن كتمانها وتشكل مرجعيات يعتمدها في توزيع أريحيته وفيء حنانه وحبه على مريديه، فهو لا يستثنى أحدا، لكل واحد نصيب، هكذا يفتح الأديب قلبه ليزف البشارة وبشكل تدريجي مستهلا بالأسرة الصغيرة ثم يتوجه إلى كل أصدقائه جميعهم، ثم يتوسع أكثر بشكل كوسموبوليتي إلى كل االشغوفين بالشعر، وحيثما يكون الشعر يكون الجمال والصدق

        - الذكريات  والاحلام

        في الاحلام نحيا حياة موازية للواقع بكل تفاصيلها وأحداثها..  لهذا يصر الحلم على الحضور وإقحامنا بقوة في عوالمه السحرية غبر تكرار اللفطة حوالي 15 مرة.
        في قصيدة  " شمس ليالي " نقرأ:
       " وأنا استيقظ باكرا هذا الصباح لاحظت ان الشمس قد اختفت، بالرغم من أني طيلة الليل كان لي معها حوار عبر متاهات هذياني
        التقطت أنفاسي معتقدا بأن الأمر مجرد تجهم عابر. فقررت الخروج لأروح عن نفسي
        اثر بضع خطوات فوجئت بنور منبعث عن جدول على تخوم بستان خرب، أصبح الضياء أكثر حدة بحيث لولا ذراعي لفقدت الرؤية، وشيئا فشيئا بدأت حدة النور تتلاشي واستطعت التعرف على شمس حلمي"
      يلاحظ القارئ بان  الشاعر  يحلم  وهو  في  عز   منامه بان الشمس قد خسفت واختفت فيجري معها حوارا شاعريا
  يتماهي  العنوان الاصلي شمس  ليالي"     Soleil  de  mes  nuits " في تجانس  صوتي مع  نعبير فرنسي  اخر  جد  معبر يحيل ضمنيا على " شمس منتصف  الليل -   Soleil  de   minuit "،  وهو  طباق يتداخل  فيه الحلم  بالحرمان مع الرغبة في الحياة بامل ..
 يورد الشاعر عديدا من  هذه التقابلات اللفظية الغريبة والمقصودة في تعبيرات موحدة كالضياء والعتمة، النوم واليقظة، الشمس والظلام.. بنية الدعوة للانفتاح على المستقبل في مواجهة العتمات وانسداد الآفاق وفقدان الأمل.
قد يبدو التضاد جليا على مستوى المعنى، فيما يشكلان  معا  على المستوى البلاغي  صورة شعرية بديعة،  يطلق عليها فقهاء اللغة  مصطلح  " اوكسيمور". وهي طريقة أسلوبية تسعى للربط بين مصطلحين على طرفي نقيض،  مما يجعل النصوص محكومة بجدلية الخفاء  والتجلي..
 في عالم  الاحلام  تنمحي  وتتلاشى التخوم بين المعقول ونقيضه..
الفيلسوف التاوي " شوانغ تسو " حلم يوما بأنه تحول إلى فراشة، وحينما استيقظ لم يعد متيقنا ما إذا كان يحلم بأنه فراشة، أم أنه فراشة تحلم بأنها هو، الأمر سيان بالنسبة لغريغوار سامسا بطل قصة " المسخ " لفرانز كافكا الذي أفاق من أحلامه المزعجة فوجد نفسه قد تحول إلى حشرة ضخمة.
        تلك هي وظيفة الشعر التي دفعت بمفكر كبير كغاستون باشلار وهو اول من شعرن العلم الى القول بــــ
        "إن وظيفة الشعر الكبري هي أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا"
        وكما نعرف فان الشعر لا يتحقق إلا بخلق لغة شاعرية خاصة، مع اعتماد ترسانة من الأنساق اللغوية والتعابير المجازية تلميحا وتوضيحا، وهنا تكمن عبقرية المبدع وجمالية الإبداع على السواء
        في الشعر لا نبتكر الكلمات بل نتذكرها عبر الكتابة، هي الأداة التي نفكر بواسطتها نطور بها مداركنا، هي الوسيلة التي نحلم من خلالها ونتأمل، هي الأساس في العملية الإبداعية، والكتابة الشعرية تمارس دورها كفعل إنتاج المعرفة. اللغة في الإبداع هي جوهر لإثبات الوجود والكينونة بحسب مارتن هيدغر
      بما أن تمة العديد من مواقف النسيان، فالذكريات هي انبعاث ومضات وأحداث من الماضي، وإثارتها  لا تعني اجترار الماضي واستعادته بشكل محنط ونمطي أو يشكل ميتافيزيقي، إنها محاولة لتجاوز امنيزيا  الذات قصد استعادة توازن روحي ونفسي من خلال الأحلام واجترار أحلام اليقظة والهواجس.. انه ماض  حاضر  باستمرار محفوف  بالامل..
هكذا تبدو الذات منفلتة في الزمان والمكان، وهي تهيم في كل الاتجاهات، ساعية لاستكناه جوهر الأشياء وعناصر الكون، فتتفاعل لأجل خلق لحظة تأملية نسترجع عن طريقها ما فات، وتتحول إلى عناصر ملهمة تمتعنا وتؤنسنا.. عبر محاولة تجاوز الحيز الفيزيقي  والتصور الغرائبي   للاحداث والاشياء  الى المألوف من الظواهر الطبيعية، وأحيانا من خلال مشاهد سوريالية يوظفها الشاعر ليشير من خلالها إلى عدمية الوجود والخوف والتوجس من الأتي ورسم خطاطات لتجاوزه بصلابة العزم وقوة الشكيمة.
        الذكريات استعادة ما ينفلت منا ساعة الصحو، وساعة السهو.. وهي وقائع حياتية نسيناها أو كدنا لكن نستعيد أطوارها عبر المنام او أحلام اليقظة، وأحداث مماثلة نعيش أطوارها من جديد، او نتف من الذكريات الجميلة او البائسة تنبري من سجوف الماضي البعيد. وانبعثت بطريقة فجائية وعن حين غرة.. لكن هل بمقدورها إعادة الحياة للأشياء واستنساخها

      -  الامكنة والازمنة

        رغم أن المعجم الذي يحيل على الطبيعة بكل مكوناتها وعناصرها الأربعة يفرض نفسه في أكثر من نص، إلا أن العلاقة بينه وبينها تظل متأرجحة بين القبول والرفض، بين الاتصال والانفصال، بين الانبهار والنفور، وبين الخضوع لناموسها وانتقاد العديد من ظواهرها المشينة باعتبارها نشازا يراوح بين الغربة والضياع، الألفة والعزلة، الأمان والتيه، الإشراق والافول، الغواية والنفور
        فتيمة الكينونة برغم تجددها المستمر أشبه بالخيوط التي تربطنا بالوجود وبالحياة. أنها صيغة من صيغ إرادة الحياة، تحلق بنا في فضاء المعنى. هذا ما يفسر الحضور المكثف للمعجم المرتبط بكلمات الروح الذكريات والأحلام الأرض المحيطات البحر الغابة الشمس الجداول في كذا نص شعري..
        للزمن أيضا حضوره المتماهي مع المكان، ويشكلان معا ركنا أساسيا في الخيال الأدبي كما هو بالنسبة للعلم ايضا، يمنحه هويةً مختلفة عن الواقع الحقيقي.
        يخلص بورخيس الى ان الشعر كالزمن "إذا لم تسألوني ماهو، فأني اعرفه، ولكن إذا سألتموني ما هو، فإنني لا اعرفه.. ويعتبر أيضا أن أعظم المتع التي صادفها في حياته هي إمكانية حياكة الكلمات وتحويلها الى شعر..
        يقول هيراقليطس "انك لا تستحم في النهر مرتين""
        ان مياه النهر لاتستقر على حال واحدة.. وكذلك بالنسبة للزمان سواء بسواء انه ضرب من المجاز

     -    الشعر والترجمة

        أشعار عبد اللطيف بحيري من نوع السهل الممتنع. هكذا أوجز منذ البداية الحالة العصية التي تصادف القارئ ومترجم إشعاره على الخصوص خاصة من غير المتمرسين مثلي.. فأسلوبه على رقته وجزالة لغته وبساطة تراكيبه المنتقاة بعناية فائقة وانيقة تغريك بعشقها وتسافر بك مفردة أجنحتها في فضاء جواني يفيض بالرقة والجمال.. لهذا تفرض عليك نصوصه تحد كبير في نقلها بأمانة،
        لأن هناك ترجمات جنت على النصوص الأصلية جناية فظيعة وتروم إسقاط تصورات شخصية أو إفتاء الرأي في بعض الكلمات/التعابير في محاولة قسرية لإخضاعها لــ"سرير بروكوست"
        هناك من يعتقد كما الايطاليين بان الترجمة خيانة، وهي بشرط بالنسبة عمرو بن بحر الجاحظ الذي يقول في كتاب الحيوان: " لابد للترجمان من أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة"، وهي نفس الرؤية لجاك دريدا الذي  يرى بان الترجمة مستحيلة ومتعذرة  وهي اما   حرفية تقوم  بنسخ النص الاصلي او  مؤولة تراعي خصوصيات الثقافة المستقبلة، وهي تحايل، وهي نقل، وهي استنبات، وهي حوار بين ثقافات، وهي صورة عن النص الأصلي.. وهي بديل.. وهي مفاوضة بين نسقين ثقافيين.. وهي " السيمولاكر" الذي يعني به فوكو الكذب الذي يجعلنا نأخذ علامة بدل أخرى
        وهي تأليف بحسب موريش بلانشو
        صيغة من صيغ عديدة يحكمها المزاج وتخضع لعملية تأويل قلما ترضي ذائقة صاحب النص الأصلي
        لكن ما كل شيء قابل للترجمة
        نقف هنا إزاء أعمال عديدة ظلت عصية عن الترجمة..
        تصورات عديدة لكن لامناص من الترجمة
        لأن "الكيان الذي لا يشهد أي تحوّل يصير إلى زوال" بحسب مزاعم غوته

        خاتمة

        نحن إزاء شاعر يمتلك ناصية القول، مفعم بالأحاسيس الإنسانية، عميق الثقافة، متعدد المرجعيات الابيستيمية، يكتب بهدوء وتمعن، وبدون تصنع وتكلف، ومزايدة. أقصد بالكثير من العشق للغة والشغف بالكلمة الشاعرة، وبالكثير من الخبرة، والموضوعية التي تسعى لاختزال المسافة بين المعيشي والمتخيل، والمجاورة بين التذكر والتبصر، والمزج بين الأسطورة والواقع، والتماهي بين الحلم والواقع مما يشي بعمق التجربة الشعرية لدى الشاعر عبد اللطيف بحيري، ذلك أن تعدد المناهج النقدية دليل على خصوبة النص وعمقه، وقد حاولت من خلال هذه القراءة التفكيكية الانطلاق من مقاربة السمات الدلالية في ديوان " ذكريات سرمدية ". إيمانا منا بأن اللغة بكل انزياحاتها وسحرها وسطوتها، هي  سليلة  معيار وحمالة معاني، بما تتحمله من التعبيرات البلاغية وجمالياتها، وستبقى الجسر الرابط بين الأديب والمتلقي، ذلك ان المعجم الشعري الشفيف برومانسيته، بإحساساته الرهيفة والجياشة، بهارمونيته بايقاعية موسيقاه بتوسله بالتكثيف والاستعارات الاليغورية والصور الشعرية الشائقة يفرض على القارئ الحصيف سحره، ويبحر به مجدفا في بحار لا ضفاف لها من المتعة المعرفية والنشوة الروحية، التي تكاد تظهر للعيان عواطف الشاعر وانفعالاته من فرط رقتها.. ولعل " أشعر النَّاس منْ أنت في شعره حتَّى تفرغ منه" هذا على الاقل ما قاله أبو محمد عبدالله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري في كتابه الشهير الشعر والشعراء
        أخيرا وليس آخرا، لا ادعي بان هذه القراءة المتواضعة تسعى للإحاطة بكل جوانب التجربة الشعرية للشاعر السي عبد اللطيف بحيري، واستسمج إن أخذت من وقتكم ما يكفي، وأتمنى أن أكون قد وفقت، وقبل الختام يحضرني في هذا المقام بيت شعري من التراث الشعري العربي القديم يقول
        ولوخيرنا لما افترقنا = ولكن لاخيار مع الاذان

        ***

        * قصائد مترجمة

        شمس ليالي - قصيدة نثر
        عبد اللطيف بحيري

        وأنا استيقظ باكرا هذا الصباح لاحظت ان الشمس قد اختفت، بالرغم من أني طيلة الليل كان لي معها حوار عبر متاهات هذياني
        التقطت أنفاسي معتقدا بأن الأمر مجرد تجهم عابر. فقررت الخروج لأروح عن نفسي
        اثر بضع خطوات فوجئت بنور منبعث عن جدول على تخوم بستان خرب، أصبح الضياء أكثر حدة بحيث لولا ذراعي لفقدت الرؤية، وشيئا فشيئا بدأت حدة النور تتلاشي واستطعت التعرف على شمس حلمي
        استرجعت أنفاسي وسألتها
        - صباح الخير أيها الضوء، لقد طال انتظارنا لك؟
        - أيها المسافر الليلي البائس، ألا تدري بأن نوري نهاري
        - بالتأكيد، لكن مساء أمس كنت مضيئا جدا وبك رغبة في الحديث
        - أيها الحالم المسكين، لست انا، لكن ماذا تريد
        - آه، لقد وعدتني باضاءة سبيلي
        - من انأ؟ في الليل أغيب، لكن الناس يبتهجون لأفولي
        - انأ أيضا كتبت قصيدة عن هذا
        - حسنا، ماذا تريد مني اذن؟
        - كم أنت مخادع في الصباح، اترك لي وقتا للتفكير
        - هيا بسرعة، ليس لي سوى ركنك هذا الصباح
        - ها انا أتفهمك جيدا
        - أنت تفتننا لتأسرنا
        - تهدهد شروقنا وغروبنا لتستعبدنا
        - ايتها الشمس لا تنصرفي، عفوا لا ارغب اوه
        وهكذا وإنا اخمن كيف انتعش في الصباح، لم افلح سوى في تحريك السكين في الجرح

        ****

        - السامري الطيب
        شعر عبد اللطيف بحيري

        بعيدا عن السواحل البحرية
        بعيدا عن الجبال العالية
        بعيدا عن البساتين البهية
        بعيدا عن الصحراء القصية
        بعيدا عن الأصحاب الاقدمين
        بعيدا عن الأهل المنزوين
        اقطع وحيدا سبيلي
        منتعشا بالذكريات الجميلة
        والاحاسيس الصادقة والنبيلة
        اصوغ قدري الشخصي
        حيث النجوم قربي
        وحيث البلاد موحدة
        وحيث روحي جذلانة
        وحيث فلبي يصمد بوجه الاتراح
        وذاتي تنتعش بالافراح

        ***

        نشيد للمرأة
        شعر عبد اللطيف بحيري

        ربما تكون امك
        احبها ايتما وجدت على الارض
        ربما تكون زوجتك
        احتفظ لها بدفئك
        ربما تكون اختك
        اشرح قلبها بعطفك
        ربما تكون ابنتك
        احمها في حضنك
        ربما تكون صديقتك
        ادفع عنها الهموم
        ربما تكون غريبة
        اذن ترفق كما المعتاد
        حتى اذا ما كنت يوما حزينا
        وفي حياتك ما يؤلمك
        مع امراة يجب ان نكون سعداء
        برغم بعض المشاكل الطارئة

        ***

        * ذكريات سرمدية
        شعر عبد اللطيف بحيري

        بالأمس كنا تحت سماوات أخرى
        لم يستطع قلبي الركض
        في فيء ازلية
        واخمد كل احاسيسه العذبة

        بالامس ايضا في صحونا
        كانت عيوننا مثقلة جدا
        تتقاطع معبرة عن ما لا نستطيع قوله
        ونظراتنا تخفي سحرها

        بالامس ايضا قرب البحر
        سبحنا في الأثير واستنشقنا اليود
        والتيار يعبر بيننا
        وصمتنا غريب

        بالأمس أيضا في المغيب
        حينما أضاء القمر روحينا
        كنا وحيدين في حضن المحبة
        والنجوم تحتفي بلقائنا

        اليوم ابتعدنا كثيرا
        وذكرياتنا تبعث عبقها
        لتؤجج نار قلبين مشتاقين
        وجدهما لا يمكن علاجه

        ****

        * كلمات رهينة
        شعر عبد اللطيف بحيري

        كلمات منقبضة
        كلمات مشلولة
        كلمات منومة
        كلمات مبتذلة

        كلمات مجمدة
        كلمات شجية
        كلمات ملطفة
        كلمات موجهة

        كلمات حبيسة
        كلمات مستعبدة
        كلمات معيقة
        كلمات غير جريئة

        كلمات دموية
        كلمات خانقة
        كلمات معمية
        كلمات قاسية

        كلمات مارقة
        كلمات مضطربة
        كلمات جاحدة
        كلمات ساحقة

        أين كلماتكم
       ايتها العقول المتحررة
        اين هي كلماتكم
        يا من تنتفض أرواحكم
        لاجل الحرية

الاثنين، 15 يوليو 2013

نقوس المهدي 
فصوص الغواية والفتنة


(أكّدت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "الشرطة الدينية" في السعودية، امس الأربعاء، على أنها ستجبر النساء على تغطية عيونهن، خصوصاً "المثيرة للفتنة".) الرياض ـ يو بي اي

ولأنهن هن هن هن..
النساء القليلات العرض، يمضين النهارات والليالي في تكحيل المآقي، وتمطيط الرموش، وصبغ الجفون، ودبغ المباسم، وصقل الخدود، وتليين القدود.. يفنين جبال الكحل والحرقوص، ويؤججن الفتنة..

ولأنهم هم هم هم..
شيوخ الرعب.. ينظرون بيقين الوجع، وحرقة العطش لعين تغمز، وكفل ينصار، وقد يميس، وسرة ترتج، وثغر يفتر، ونهد يهتز..
فيخفق لهم قلب..
ويشط بهم خيال..
ويسيل منهم لعاب..
ويختلج فيهم عرق..
ويغيب عنهــم وعي..
ويشحب عندهم لـون..
ويضعف لديهم ايمــان..
وينـــــزل عليهم عـذاب..
فقد أفتوا بسترهن من قبل ومن دبر.. ولفهن من فوق ومن تحت.. خشية فتنة..

ولأن هي هي هي..
اللحاظ النجل.. هبة الخالق... "المثيرة للفتنة".. فقد أصدروا أوامر بتركها جافة مشققة، مشاعا للوحشة والذباب والغبار والعمش والرمد..

ولأنه هوهوهو..
النظر.. بوابة الروح.. يسبي العقل، ويحرك العواطف، ويحيي الروح وهي رميم، ويوقظ المشاعر، ويخلب العقول، ويخطف الألباب... فقد أفتوا بملاحقة الرائحة، وقطع الحس، وقمع البسمة، وشل اللمس، وإطفاء النظرة..

ولأنها ها ها ها..
الرغبات.. تعوي في الأعماق كذئب البراري، فقد ظلت العيون الحور الجميلة الكحيلة المليحة الناعسة الفاتنة الساحرة المثيرة للفتنة رقراقة مشحونة بالغواية، مبلولة حارة متلهفة ضاجة بأنين.. تطلق سيفها البتار القاتل وتصيب بمهارة من خلف لثام... وتقول لعين الرقيب إليك عني ...

الثلاثاء، 30 أكتوبر 2012



- العقيد الهمام وابنه زيف الأحلام -
 - قصة قصيرة
- نقوس المهدي


كان العقيد في منتهى إنهاكه البدني حين قرر الدخول الى غرفة الحمام بعد جولة ميدانية أمطر خلالها أعداءه بوابل من القذائف والبارود والقنابل والشتائم، كانت الغرفة واحدة من إثني عشر حماما، لا يزيد طولها وعرضها ولا ينقص عن عشرة أمتار، علقت على بابها حدوة حصان جلبا لليمن ودرءا للعين، تمدد في الحوض المرمري الفسيح، فتح الصنبور فسال منه خيط رفيع من الدم القاني، أحس باللزوجة فوق جسده، واستسلم لسخونة السائل، الحقيقة أن دفء الحوض ورفاهية الغرفة منحا العقيد شعورا باللذة والإسترخاء والكسل والأمان والطمأنينة، فساورته الهواجس وشرع في رسم مخططات جهنمية عن كيفية التخلص من شعب فطن لأسرار اللعبة، ولم تعد تنطلي على أفراده الحيل والدسائس، ولا تجدي معهم فنون الخداع، وبدأت الوساوس والشكوك والملل يتسرب إلى دواخلهم ويتمكن من نفوسهم، فلم يعودوا يطاوعونه، حتى أنه فكر في لحظة طيش بأن يبيدهم باكملهم، وراهن على سبعة ايام وثمانية ليال بإشراقاتها وغروبها، بحرها وبرودتها، بلياليها ونهاراتها، بجوعها وعطشها، لاستبدالهم بمواطنين آخرين مغايرين لهم تماما في اللون واللغة والدين، يستوردهم من أقاصي أدغال افريقيا، أكثر وداعة وطاعة، وأكثر جلدا على الإهانة والأذى والحرمان، وأكثر تعقلا وتحملا للجوع والتعب والمصائب، وأكثر صبرا على الإضطهاد والإذلال، شعب جديد أقل غضبا وإلحاحا، طيع مسالم وديع كالدجاج، وقادر على استساغة نظرياته الشيطانية من دون رد فعل ولا رد كلام.

راقته الفكرة فبدا يدندن بمقطع أغنية ريفية أفلحت الجدران الأربعة وكثافة البخار بتفخيم نبراتها وترديد صداها، وأسلمته لأحضان غفوة لم يوقظه منها سوى حلما رأى فيه نفسه يمشي قي صحراء واسعة مترامية الأطراف، تتململ كثبانها في نحو تجاذبي تود ابتلاعه، وثعابين صفراء وزواحف تحاول الدخول من شق ثغره، شعر بالإختناق، كان الدم يبقبق على مستوى أنفه، ويسيل من حافة الحوض على أرضية الحمام، وفمه المتهدل النصف مفتوح ممتلئ بقطع من الدم المتختر، وفلول الضياء تتقهقر أمام غبش الغروب الوشيك ..

أحس باختلاج في جفن عينه اليسرى، وأدرك أنه لم يكن في حلم، بل في يقين تام، لحظة حاسمة لا يطيق العقيد تحملها، فحاول يائسا طرد أطيافها بكل التحفظ بأحلام أخرى مخملية ووردية، وخلق أحداث جديدة أكثر أشراقا وزهوا، تكون أجدى ملاءمة لحالته النفسية المخزية، لكنه ظل عاجزا عن لملمة شتات أفكاره، وحاول التخلى عن إصراره العنيد دون جدوى، هو الذي لم تجرؤ قط ذبابة على أن تحط فوق أرنبة أنفه، ولم تسلم دون أن تنال جزاءها ..

كانت رؤى المفازات والثعابين والخفافيش والعظايا والحيوانات الكاسرة هي الأشياء التي تراود أحلام لياليه الموحشة على الدوام، بقايا من ذكرياته الآبقة من سنين الجذب والحرمان حين كان يفترش خشونة الحلفاء في أعماق الصحاري القاحلة الموجعة، حيث رأى النور لأول مرة من أم نحيفة محدودبة الظهر على مشارف سن اليأس، وأب قليل الكلام كان يشغل راعي إبل لدى إحدى أفخاد قبيلة زناتة البربرية. وأمر بإحضار كافة مفسري الأحلام والعرافين والمنجمين وكتاب التعاويذ والحواة على وجه السرعة كي يفتونه في أمره، بما يسعفهم به كتاب " تفسير الاحلام " لإبن سيرين، ومن كتب "الرحمة في الطب والحكمة" و" بدائع الزهور في وقائع الدهور"، وبما يستطيعون إسعافه به من أشربة وعقاقير يحشون بها جوفه، وتمائم وطلاسم ورقيات تهدئ من روعه وتجبر خاطره .

في الخيمة، ولأنه كان دائم الظهور بمنظر المتقشف في عيشه، تحامل على عجزه وغضبه وتوثره وشروده، وتظاهر بالجد والحزم كي يبدو متماسكا أمام ناظريه، استعرض تشكيلة من الكواعب الطريات اللحم كالزبد، وصيفات، وحاجبات، وحارسات، ومدربات، ونديمات، وممرضات، وراقصات، ومقلمات اظافر، ومدلكات، وكاتبات خطب ورسائل وتواريخ، وقارئات كف، وحكواتيات، ومدونات مذكراته وسيرته الذاتية جئن لعرض خدمات وخطب وكراريس وجذاذات أفنين أبصارهن في نسخ ومحو تفاصيلها المملة، لم يكن يعنيه في الدنيا سوى التفاخر وجمع المال والثروة، ولم يكن قد راى في صباه نسوة قط، ولا سهر الليالي تحت نافذة حبيبة مستحيلة، كانت حياته خالية من كل ملذات الدنيا، وكل الأشياء مثل باقي الأشياء، لايختار منها إلا ما يعينه على إعلاء صورته في عيون الرعية، وما تسبغه عليه المدائح من أوهام فاسدة كافية لشد أزر مجده الآفل والآهل للسقوط ..

امر كاتبة خطبه بأن تعد له خطبة وطنية لا تتجاوز مدتها أربعين ثانية، أربعين ثانية كافية لكبح جماح شعب غاضب، يعيد قراءتها كما وضعتها في أذنه، كان عندها في عامه الواحد والأربعين من حكمه المطلق، وفي السنة السبعين من عمره حين أرغمته ظروف هزيمته وغضب الشعب على التنقل متنكرا بين العشائر والقبائل والمداشر ممتطيا ناقته العشارية، معتمرا قلنسوة من تروس السلاحف، ومتلحفا ب" جرد " بني أشد مقاومة للأوساخ، مشغول بوبر عشرين جملا. مسترجعا حلمه المرعب، ومتبوعا بتجريدة من نساء المايا الخلاسيات، لا أسماء محددة لهن، يكتفي فقط بمناداتهن بعيشة، وعويشة، وعيوشة تيمنا بابنته الوحيدة التي اردتها رصاصة طائشة حين كان يقنص الوحيش في أعماق الصحراء.

لم يكن أكثر جرأة ليقترب من غضب المتظاهرين الذين رابطوا حول خيمته، وتجرأوا على مخالفته، والذين كان يتوعدهم دوما بالحاق شتى العقوبات الجزرية بهم، ولا يتورع على دفنهم أحياء، أو بحلق رؤوسهم في الوقت المناسب بشظايا الزجاج، لتطهير البلاد من الجرذان شبر شبر... بيت بيت... دار دار... زنكَه زنكَه... فرد فرد.... "

كان العقيد يهاب دوما الموت بالسم أو بطعنة خنجر، ويشعر بأن الكل يتجسسون عليه، ويحاولون استغفاله، ولم تزده السنون التي أمضاها مهووسا بجمع المال والنساء إلا شكوكا في أقرب المقربين إليه، ومزيدا من الكرب والعناد والصلابة والغرور أكثر مما منحته من الفطنة واللباقة وطول الصبر ورباطة الجأش. لهذا ظل يتوقع خطرا محدقا من غزاة وهميين قادمين من بعيد، وعلى وشك الإقتراب من مضارب عشيرته، ويخيل إليه أن ظلال فلولهم تتماج على كثبان الرمال المتحركة، وتتناهى إلى مسامعه وثبات خفوفهم، وصليل سيوفهم وصنجاتهم كالهمس، أيقن أن قتاله لافائدة من ورائه، وأن مقاتليه الذين كانوا يكافحون بتفان عن فك عزلته سيتخلون عنه لامحالة، وأن حتفه أصبح وشيكا، وجثته ستدوسها سنابك الخيل، وتلغ فيها الضباع والعقبان، وليس هناك من حصان طروادة كي يختبئ في جوفه.

في الهزيع الأول من الليل شوهد العقيد وهو يتسلل من تحت الستار الخلفي للخيمة، مهرولا عاضا على طرف برنسه باسنانه المدببة، وقد خيل لمن رآه انه كان في حالة ارتباك قصوى، كمن أدركته الحاجة، هدم جميع تحصيناته، وساق بهائمه، وهام على وجهه متوغلا في أعماق بيداء لا قرار لها، تصده قبيلة، وتطرده أخرى، وتطارده قبائل، وتعوي في أذنيه ذئاب البراري الجائعة، كان على دلتا النهر العظيم حين أطبقوا الطوق عليه، أحس بأن كل المنافذ والسبل قد سدت في وجهه، وأنه ساقط لامحالة، سحب المسدس أمام دهشة واستغراب الجميع، داس على الزناد، وسمع دوي في الجهات القصية للكون، قبل أن تسكن الإطلاقة داخل تجويف الصدغ الأيمن ..


 

الاثنين، 1 أكتوبر 2012


أعض على أناملي ثملا بالفجيعة 
- أقصوصة - نقوس المهدي


ما من أحد صدق في مبتدأ الملام.
فلم يعد ثمة من شيء مستغربا في هذا البلد
من سنين وهم يقفون في طوابير الخديعة، مسندين هاماتهم على مشانق أحلام لا تقاوم ولا تلين. يوشوشون بكلمات قليلة وخافتة تكفي بالكاد لتدفئة أمانيهم. ويبسمون حين تغزوهم سهوا مسراتهم العتيقة.
وعلى مبعدة صيحة يقف جنود مزنرين بالزراية، متحفزين مشمرين جذلين لدرس عظامهم الهشة.
وأقف أنا بإزاء عتبة البحر مبللا بزرقته الفادحة.
أنصت لهدير الامواج وهي تتلولب تتشقلب تتقافز تغيب وترمح كأفراس جامحة مدفوعة بريح .
فيما العواصف تثير زوبعة على أخرى .
أمّا "اليقين فلا يقين"*
و ما من أحد يصدق في منتهى الكلام وسوء الختام...

------------------
* مطلع بيت ابي العلاء المعري الذي يقول فيه
أما اليقين فـلا يقين وإنما = أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا